كعنقود عنب لا ينفرط تحكى الجندية المصرية روايتها فى عشق الوطن.. تخوض معركة اليقين بأن فى الإمكان دائما الأبدع والأبدع مما كان.
أول درس نتعلمه فى الجيش الذهاب للضفة الشرقية بسيناء ووضع حفنة تراب من أرضها ومسح فمنا بها ثم نغسله بماء قناة السويس.. ويقول لنا قادتنا: فى هذه الأرض سقطت دماء كثيرة من شعبنا عبر التاريخ، وعلينا نحن حمايتها من أعدائنا وبنائها للأجيال القادمة.
هذا ما ذكره اللواء سعيد عباس قائد المنطقة الشمالية فى الاسكندرية ردا على من ينادون بسقوط حكم العسكر.. الرجل بحسه الوطنى رسم لوحة جديدة لطبيعة هذا الجيش الذى أرسى مفاهيم وتقاليد الجندية التى عرفها العالم منذ فجر الحضارات القديمة، ليستكمل لنا لوحات معارك مصر المجيدة من قادش ومجدو وحطين وعين جالوت عبر الملاحم الشعبية لثورات القاهرة ورشيد والمنصورة وثورة 19 انتهاء بوحدة اليد المدنية والعسكرية فى حرب السويس وملحمة بورسعيد ونصر أكتوبر حتى ثورتى 25 يناير و30 يونيو ليبقى دائما الجيش والشعب يدا واحدة.
مصر يا مه يا بهية يا أم طرحة وجلابية.. الزمن شاب وانتى شابة هو رايح وانتى جايه..
تروى لنا الأسطورة ملامح صاحبة الطرحة والجلابية مرسومة فى وجوه أبنائها المرابضين فوق الدبابات يحمل كل منهم بندقية، محميا بحب الناس، كأنه يقول أنا الشعب عارف طريقى، فهل يمكن أن يوجه فرد سلاحه فى وجه أخيه، هل يقتل نفسه..
وقف الجيش مع الشعب أو وقف الشعب مع الجيش.. فهل من فارق؟
الله الوطن بالأمر
شعار الجندية المصرية الذى يراه البعض من زاوية ضيقة وينفذ إلى ضلعه الأخير "الأمر" على انه رمزا للاستبداد والتحكم الأعمى ما جعلهم يتهمون رجال الجيش بأنهم بهذا الأمر ينصبون أنفسهم ألهة على جنودهم وعلى الشعب، ولكن هذا التجاهل لهذا الشعار بثالوثه المقدس ينطوى على تربص واضح وقصر نظر لهذه المؤسسة العريقة، التى خاضت معاركها كلها حروبا ضد الشر وإعلاء للحق وصدا للطامعين من الأعداء لاغتصاب البلاد وكسر إرادة العباد الأحرار من شعبنا الأبى.
ولكى لا ندور كثيرا فى دوائر الدفاع عن الجيش ليس من باب الاتهام ولكن لأن الوقائع تسرد نفسها لتؤكد لنا أن هذا الأمر فى حقيقته هو امتثالا لأمر الشعب وإرادته، وكما قال الفريق عبد الفتاح السيسى فى خطابه أن حماية إرادة الشعب وحمايتها أشرف لدى الجيش من شرف حكم مصر، كان الرجل يحمل ورائه رصيدا وافرا من الحقائق التى تشهد بصدق ما يقول، فمن كان يأمر أحمد عرابى حين وقف أمام قصر عابدين ويقول للخديوى توفيق: "لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا فوالله الذى لا إله إلا هو إننا لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم".
ومن كان يأمر الضباط الأحرار حين قاموا بثورة ضد فساد الحكم ومقاومة الاحتلال، وهم أبناء الكادحين من الفلاحين والعمال والبسطاء، ومن كان يأمرهم حين قضوا على الإقطاع ووزعوا الأرض على الفلاحين وبنوا المصانع وخاضوا معارك ضارية من أجل استقلال قرار الوطن وبسط سيادته أمام العالم الذى لا يحترم سوى الأقوياء.
ومن أمر جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس من أجل بناء السد العالى كمشروع وطنى تنموى لا زلنا نحصد ثماره جيلا بعد جيل، وكيف استطاع رجال القوات المسلحة بسلاح الحق أن يديروا أكبر ممر ملاحى عالمى ويقاتلون فى ميدان جديد لا يحمل فيه السلاح ولكن تتجلى فيه مهاراتهم الفنية والاستراتيجية للحفاظ على مكتسبات الثورة ليعترف العالم كله بإرادة المصريين وإجبارهم على احترامها كقوة لا يستهان بها.
ومن أمر أنور السادات بخوض حرب تحرير سيناء، بعد أن عزم الشعب على استعادة كرامته وحرية أرضه بعد استنزاف طاقات العدو فى معارك نوعية أبهرت العالم، وكسرت لديه أسطورة الجيش الصهيونى الذى لايقهر.
هذا الرصيد الذى جعل الجندية شرف كبير والتزام بقيم الوطنية وإعلاء للحق لوجه الله والوطن وأمر الشعب وإرادته، لذلك لم تكن المؤسسة العسكرية طوال تاريخها منفصلة عن قضايا الناس، ومع اضطلاعها بمهمتها الرئيسية بحماية الحدود ضد الأخطار بحمل السلاح واستعدادها للقتال والتضحية بالأرواح حفاظا على أرض الوطن، انخرطت أيضا فى ميدان التنمية والبناء بإقامة صروح قوية أسهمت فى تقوية الاقتصاد المصرى، كالمصانع الحربية والهيئة العربية للتصنيع التى فتحت خطوط إنتاج ليس للمعدات الحربية وحسب، بل أيضا للأجهزة الكهربائية والتكنولوجية التى دخلت كل بيت وشكلت نقلة حضارية ونوعية فى حياة المجتمع المصرى، فضلا عن بناء العديد من المستشفيات والمدن السكنية وقطاع الخدمات الذى يدير شبكة واسعة من محطات الوقود وإدارات الطرق وتشييد الكبارى، وقطاع إدارة الأزمات الذى يهب دائما لمساعدة الأجهزة التنفيذية فى حالات الطوارئ وكلنا نتذكر ما قام به الجيش أثناء زلزال عام 1992.
الفجر لمن صلاه
فى مشاهد التدريب العسكرى صف جند مطلوب منهم المشى لمسافة 600 كيلو متر دون انقطاع، أى يومين كاملين مقيدون بالوقت ودرجة الكتيبة مرهونة بوصولهم فى الميعاد، يسيرون بالخطوة العسكرية، تتعب الأبدان تجوع البطون وتجف الحلوق، من شمس لليل لرياح من فجر لظهر ومغرب لا يهم، الهدف واضح والعين على الطريق والقلوب معلقة بلحظة الوصول، يقف بعضهم صفا، يحمل كل منهم كف صاحبه على ظهره ومن بعده الآخرون بنفس الطريقة، الأول يأخذ مشيته بخطوة ثابتة فيتبعه أصحابه، حتى يستقيم السير، يظل الأول مستيقظا ويرمى الآخرون رؤوسهم على أيديهم ويروحون فى النوم لكنهم لا يفقدون خطوة سيرهم، نعم يمشون وهم نائمون من التعب، وتستمر المسيرة حتى يقف الأول بعد عدة ساعات، ويرجع إلى آخر الصف، فيستيقظ من كان بعده، ويبدأ السير بنفس الخطوة حتى يثبتها مع أصحابه، ويروحون هم فى النوم وهكذا حتى يلمحون من بعيد نقطة الوصول فيجرون أرجلهم كالجبال من شدة التعب والجوع والعطش لكنهم لا يتوقفون يسقط بعضهم فيزحفون حتى يبلغون المكان المحدد حيث ينتظرهم قائدهم بنظرة فخر أن أبنائه وصلوا فى الموعد، بقى من المجموعة أحد الجنود لا يستطيع الزحف ولم يعد أمامه سوى أمتار قليلة عينيه مملوءة بالدموع، يطلب من زملائه رمى أى شئ معه فى نقطة الوصول حتى يأخذ درجته فى التقييم، لايجد معه شئ سوى سلاحه، فيطالبه زميل برمى السلاح، فينظر له ويرفض التخلى عن سلاحه مهما كلفه الأمر، حينها يهم قائده مع أحد الجنود بحمله، ويقول له لقد أخذت الدرجة كاملة لأنك لم تتخل عن سلاحك فيدخل الجندى فى نوبة بكاء من الفرح، حينها يفرد القائد ذراعيه وهو يقف وسطهم، ويصرخ هؤلاء جند مصر عاش وحوش الشعب.
أرباب السيف والإبداع
من ميدان الحرب إلى ميدان الإبداع ترمى المؤسسة العسكرية بظلالها على وجوه كثيرة كان لها تأثير عميق فى حياتنا لتظهر لنا وجها مغايرا للعقيدة القتالية، من خلال قواها الناعمة التى فجرت طاقات الإبداع فى أبنائها وكل من ارتبط بها من قريب أو بعيد.. وهى ظاهرة جديرة بالتأمل تجعلنا نتسائل عن الفارق بين القوات المسلحة وتلك الحركات - سياسية كانت أو غيرها- التى تدعى قدرتها على التنظيم والحشد والتعبئة لأفكارها ومعتقداتها، وكيف أنها افتقرت على مدار تاريخها بأن تقدم للمجتمع أى طاقة ابداعية أو حتى أسماء يمكن أن يشار إليها فى مجالات الأدب أو الموسيقى أو الرياضة أو حتى فى مجال العلوم والاقتصاد.
على الجانب الآخر كان الجيش مؤسسة لا تقتصر على فنون القتال ومهارات الحرب ولها فى هذه الساحة أسماء يشار لهم بالبنان فى العلوم العسكرية واستراتيجيات الحرب الذين تدرس مؤلفاتهم فى مختلف الأكاديميات ومن هؤلاء الفريق سعد الدين الشاذلى والفريق عبدالمنعم رياض واللواء أحمد حمدى، فضلا عن مهارات أخرى عمرت بها كليات الجيش المتعددة، فعرفنا الضابط المهندس والضابط الطبيب والضابط الباحث، ورغم أنها قطاعات تخدم المؤسسة فى فترات الحرب إلى أنها قامت بمشروعات تنموية أسهمت فى دفع مسيرة الاقتصاد والتجارة والخدمات وتحسين البنية التحتية وتعظيم الموارد الصناعية والقدرات البشرية من خلال مراكز التدريب التابعة لها وإلحاق المجندين ببرامجها.
المثير أن امتداد تأثير هذه المؤسسة تجلى فى رموز ناصعة بمجالات الإبداع المختلفة، بدءا من اللواء الشاعر محمود سامى البارودى الملقب بـ"رب السيف والقلم" الذى ارتبط اسمه بالثورة العرابية وتولى وزارة الحربية ومن بعدها رئاسة الوزراء، ولم تمنعه تلك المهام بأن يحفر له مكانا كأحد رواد التجديد فى الشعر العربى. ويبرز اسم محمد عبد القادر حاتم خريج الكلية الحربية الملكية الذى أنشأ أول وكالة أنباء في العالم العربى هى وكالة أنباء الشرق الأوسط. وعين وزير دولة لشئون الإذاعة والإعلام العربى عام 1958، ثم شغل منصب وزير الثقافة والإرشاد القومى من عام 1960 إلى 1965 وله مؤلفات قيمة فى مجال الإعلام.
وعلى نفس الطريق برز اسم ضابط أركان حرب ثروت عكاشة الذى تولى وزارة الثقافة فى فترة حكم عبد الناصر، وذاع صيته كقيمة عالمية فى مجال الفنون والثقافة من خلال مؤلفات عديدة، وتصديه لمشروعات حماية التراث العالمى فى العديد من دول العالم، من واقع خططه الناجحة التى حافظ بها على آثار النوبة ومعابد أبو سمبل وفيلة فى جنوب مصر، ونال جوائز وأوسمة دولية عديدة.
ويأتى يوسف السباعى ليضيف بعدا لصورة الضابط الوزير الذى برع فى فنون العسكرية حتى أصبح أستاذا فى الكلية الحربية، بنفس البراعة التى جعلت رواياته الأكثر توزيعا وتحولت إلى أفلام شهيرة من بينها "إنى راحلة- رد قلبى- بين الأطلال- نحن لا نزرع الشوك - أرض النفاق - والسقا مات" وكرجل دولة استطاع أن ينقل وزارة الثقافة من سطوة النخبة إلى البسطاء فى الشوارع والحارات والقرى ضمن رؤيته التى عبر عنها من خلال الثقافة الجماهيرية.
وتتوالى الأسماء التى تضع لنا صورة ذهنية واضحة عن طبيعة الجندى المصرى ابن الفلاح والعامل وتربيته العسكرية التى تعكس عجين ملح الأرض الطيبة، ممزوجة بروح المسئولية والالتزام فيكون النجاح حليفها فى كل المواقع التى تتاح لها فى أى مجال، ونذكر هنا أسماء لامعة منها جمال حماد وأحمد حمروش كأبرز مؤرخى المرحلة الناصرية، والعقيد محمد على فرج الذى تخصص فى الكتابة عن سير أبطال العسكرية العربية والإسلامية، ومن أهم مؤلفاته "خالد بن الوليد - والمثنى بن حارثة".
وفى مجال الرياضة لا يمكن إغفال أسماء الضباط، محمود الجوهرى ـ حمادة إمام - محمود بكر - وابراهيم الجوينى.. وفى الفن يبرز أحمد مظهر الذى أكمل مسيرته من ضابط فى سلاح الفرسان لينفرد وحده بلقب فارس السينما العربية.
مدنيون جنود
هناك أسماء امتزجت بروح العسكرية وإن لم ترتد زيها، لتؤكد لنا من جديد ارتباط الجيش بالشعب كوحدة وطنية لا تستقيم حياة المصريين بدونها، فها هو الأديب جمال الغيطانى الذى عمل كمراسل عسكرى أثناء حرب أكتوبر، وكانت لتلك الفترة تأثير كبير فى حياته صورها فى سيرته الذاتية (التجليات)، وكتابه الشهير عن سيرة العقيد الشهيد ابراهيم الرفاعى قائد المجموعة 39 صاعقة التى قامت ببطولات فذة ضد العدو الصهيونى، ورائعته "حكايات الغريب" التى تحولت إلى فيلم سينمائى متميز.
ولا يفوتنا اسم الراحل صالح مرسى الذى أبدع للأدب والدراما حكايات خالدة تروى لنا بطولات رجال المخابرات فى أعماله (رأفت الهجان- دموع فى عيون وقحة – الحفار- الصعود إلى الهاوية ).
ثم يأتى الفنان التشكيلى أحمد نوار الذى قضى عمره دائرا فى فلك فترة تجنيده وسجلها فى معظم أعماله الفنية، وكيف حول ريشته الفنية إلى بندقية بعد أن التحق بسلاح القناصة أثناء حرب الاستنزاف واستطاع قنص 15 صهيونيا فى عمليات بطولية سجلت فى صفحات الجيش المصرى ونال عن ذلك أوسمة البطولة العسكرية الفذة. وفى ذات السياق نتذكر المجند محمد عبد العاطى صائد الدبابات الذى دمر بمفرده 23 دبابة اسرائيلية فى حرب أكتوبر، ويسجل بطولاته فى الموسوعات العالمية، وهو من القلائل من غير خريجى كليات القوات المسلحة الذى نال نجمة سيناء.
الأسماء لم ولن تنتهى فى هذه الملحمة الدائمة بين الشعب وجيشه، فقد تنتهى الكتابة لكنها تتوقف وهى تختم باسم الدكتور خليل حسن خليل الذى تروى حياته سيرة شعب هذا الفلاح الذى تطوع فى الجيش خلاصا من قهر وظلم سادته من الباشاوات والإقطاعيين وهو حاصل على الابتدائية، ثم شجعه الفريق عبد المحسن مرتجى الذى كان يخدم تحت إمرته حتى حصل على ليسانس الحقوق وتخصص فى الاقتصاد وترك الجيش وهو ضابط احتياط لكى يحضر الماجستير والدكتوراة فى لندن.. جسد سيرته فى رواية تحولت لمسلسل "الوسية" لتحكى لنا عن جيش قال كلمته فى الوقت المناسب ونقل شعبه من وطأة الوسية إلى نسيم الحرية..
وتستمر الحكاية ولكل زمن سيناريو ...........
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق