الاثنين، 29 يونيو 2009

الساحرة


في العام الماضي أسعدني الحظ لرؤية معرض الفنان أدهم لطفي بمكتبة البلد، ووسط خطوطه التي أبدع بها ملامح المشاهير في بورتريهاته العبقرية، استوقفني وجه تلك الريفية بطرحتها السوداء ويدها الملقاة علي خدها، فتهت معها في نوبة سرحان أتأمل نظرتها العميقة.. كان هذا الوجه الحزين لسعاد حسني، الذي ربما استوحاه أدهم من شخصية "فاطمة" في فيلمها الشهير "الزوجة الثانية"، وأراد به أن يبتعد عن ملامح البنت الشقية خفيفة الظل التي اعتاد الفنانون تصوير سعاد عليه.
في هذا المشهد البديع تخيلت سعاد وكأنها تقف في لحظة تأمل، تسترجع تاريخها الدرامي الطويل، منذ قدمت إلي الحياة بين ستة عشر شقيقا وشقيقة، لكنها رغم ذلك نسجت أول خيوط عزلتها عندما انفصل أبواها وهي في الخامسة من عمرها، فتمزقت بين حنان الأم الضائع وفقر الأب الذي حرم بناته من التعليم، وتأتيها قشة النجاة من زوج والدتها الذي ساعدها علي التعليم في البيت، وزوج أختها سميرة الذي علمها الموسيقي والغناء، واستطاع أن يقدمها للإذاعة في برنامج "بابا شارو"، ليلتقطها عبدالرحمن الخميسي واختارها لتقوم بدور أوفيليا في مسرحيته "هاملت شكسبير".. وتبدأ بعدها مشوار النجومية حينما رشحها للمخرج بركات عام 1958 في فيلم "حسن ونعيمة".منذ ذلك الحين استطاعت سعاد أن تمارس قدرتها البارعة علي التلون، ومن دور إلي آخر نفذت كالساحرة إلي قلوب الناس، بجاذبيتها الآخاذة وروحها الفياضة، نصدقها حين تضحكك وتدمي قلوبنا حين تبكي.. وبين هذا وتلك تقف هي وحيدة رغم كل العاشقين الذين ترنحوا أمامها، ورغم زيجاتها المتعددة لم يستطع أحد منهم أن يداوي جراحها المكبوتة التي اعتادت أن تحرقها في كل شخصية جسدتها، تفننت في حريق الجسد المشتعل الذي أغوي الملايين، لكنه كان الجسد الذي كانت روحها وقوده الدائم.هذه هي سعاد حسني تلك الطاقة الحية التي لم تتوقف عن الاشتعال إلا بعد أن غاب عنها مرشدها ورفيقها صلاح جاهين، ذلك العبقري الذي انتشلها من نفسها وهداها إلي مواطن الدهشة المطلقة بداخلها، ورفعها علي عرش النجومية ملكة متوجة.. وهجاً دائماً.. وجمرة أطلت علي الشاشه لتشحن في النفوس طاقه الإعجاب والولع، وتخلق للمرأة صورة جديدة، تتطلع كل أنثي أن تكون عليها، ويطمح كل رجل أن يجد في امرأته شيئا منها.ذهبت سعاد بملهاتها ومآساتها، ورغم الحكايات الدرامية عنها ووجها الحزين الذي كان الأقرب لنفسي، لكنني في ذكراها الثامنة أراها في عالمها الآخر وقد خلعت طرحتها وارتدت فستانا كاشفا لتبدو مثل تلك الريفية في مشهد البداية بأحد الأفلام الإيطالية، حين ظهرت قدميها الممشوقتين الناصعتين البياض، وباتت الصورة تقترب لتكشف عن جمالهما أكثر وهي ترفع طرف فستانها لتجمع ما تستطيعه من نبات الكرز الأحمر، وبعد أن اكتفت تسير وسط المزارع فرحة بحصادها، وتمسح إحدي الحبات بحكها علي صدرها، ثم تتناولها وقد غمرتها النشوة في مشهد لا نعرف أيهما (المرأة والكرز) ذاب في الآخر..

زينب حسن

29 يونيو 2009

الاثنين، 22 يونيو 2009

رسالة

وقف الجزار يسن سكينه ويجهز عدته، ويمعن النظر في خراف الزريبة.. التي تأكل وتشرب، وكأنها جاءت بضمان الخلود، ووقع اختياره علي أحد الخراف، وأمسك بقرنيه يسحبه إلي خارج «الزريبة، ولكن ذلك الكبش كان ذا بنية قوية وقرنين قويين، وقد شعر برهبة الموت القادم، فقرر أن يتجاهل الوصية رقم واحد من دستور القطيع -وهي بالمناسبة الوصية الوحيدة فيه- وتقول: حينما يقع عليك اختيار الجزار فلا تقاوم فهذا لن ينفعك، وقد يعرض حياتك وحياة أفراد القطيع للخطر.
انتفض الكبش كالأسد الجسور، واستطاع أن يفلت من بين يدي الجزار الذي لم يكترث بما حدث كثيرا، فالزريبة مكتظة بالخراف ولاداعي لتضييع الوقت في ملاحقة ذلك الكبش "المشاغب"، وأمسك بخروف آخر وجره من رجليه وخرج به من الزريبة إلي المسلخ، كان الخروف الآخر مسالما مستسلما ولم يبد أية مقاومة، إلا صوتا خافتا يودع فيه زملاءه، وهكذا بقيت الخراف في الزريبة تنتظر الموت واحدا بعد الآخر.في مساء ذلك اليوم فكر الكبش الشاب في طريقة للخروج من زريبة الموت وإخراج بقية القطيع معه، فأخذ ينطح سياج الزريبة الخشبي حتي كسره، ليجد نفسه في الخارج، ثم صاح في رفاقه يطالبهم بالهرب معه.. ولكن كانت المفاجأة أن أحدا لم يتحرك، بل أخذوا جميعا يشتمونه ويلعنونه ويرتعدون خوفا من أن يكتشف الجزار ماحدث.تحدث أفراد القطيع مع بعضهم فيما فعله الكبش وجاء قرارهم النهائي بـ"الأغلبية"!في صباح اليوم التالي دخل الجزار إلي الزريبة ليكمل عمله فوجد سياج الزريبة مكسوراً، ولكن القطيع موجود بكامله ولم يهرب منه أحد.. ثم كانت المفاجأة الثانية حينما رأي في وسط الزريبة الكبش الشاب ميتا، وجسده مثخنا بالجراح وكأنه تعرض للنطح.. نظرت الخراف إلي الجزار بعيون الاعتزاز والفخر بما فعلته مع ذلك الخروف "المشاغب" الذي حاول أن يفسد علاقتهم به.حينها قال الجزار: أيها القطيع كم افتخر بكم، وتقديرا مني لتعاونكم فلن أقدم علي سحب أي واحد منكم إلي المسلخ بالقوة كما كنت أفعل من قبل، فقد اكتشفت أن ذلك يجرح كرامتكم، كل ما عليكم أن تنظروا إلي تلك السكين المعلقة علي باب المسلخ، فإذا لم تروها معلقة فهذا يعني أنني أنتظركم بالداخل.
هذه القصة وصلتني من أحد القراء علي الايميل.. وبدوري أهديها إلي نواب مجلس الشعب بمناسبة انتهاء الدورة البرلمانية.
زينب حسن
22 يونية 2009

الاثنين، 8 يونيو 2009

محرقة المصريين

كان محمد تلميذا نابغا بمدرسة طيبة للغات، عقليته الفذة دفعت أساتذته لنصيحة أبيه بضرورة إلحاقه بسنة دراسية أعلي حتي لا تضيع عليه السنوات في تحصيل مواد أقل من قدراته العقلية.حاول الأب إخضاع ابنه لاختبار قدرات وإلحاقه بالسنة الملائمة لإمكانياته في أي مدرسة أخري، لكن القوانين العقيمة وقفت أمام تحقيق رغبته فلم يجد سوي المدرسة البريطانية بمدينة الرحاب، التي رحبت به، وبالفعل قفزت به عامين دراسيين في المرحلة الابتدائية.
انتقل محمد من عام إلي آخر بتفوق، متجاوزا زملاءه المصريين والأجانب، ورغم المصروفات الباهظة التي تكبدها الأب، إلا أنه كان يري في ولده استثمارا حقيقيا، سوف يؤتي ثماره، وربما يصبح في الغد زويل جديداً.منذ أيام دخل الأب علي محمد فوجده منهمكا في الكتابة ودموعه تنهمر من عينيه بغزارة، فظن للوهلة الأولي أن ابنه الذي دخل مرحلة المراهقة يكتب خطابا غراميا يبث فيه لفتاته لوعة أشواقه وحرقة قلبه، وكانت المفاجأة.لقد وجد الأب ابنه يكتب قصيدة شعرية باللغة الإنجليزية علي لسان أحد ضحايا اليهود الذين عذبهم هتلر في محرقة "الهولوكوست"، وراح الولد ببراعة يصف معاناة اليهود الذين أحرقوا وشردوا وهجروا، ويزداد بكاؤه مع سرده للكلمات أمام أبيه الذي صعقته الصدمة، وعرف بعدها أن مدرسته البريطانية كلفتهم في حصة التاريخ، بأن يتخيل كل منهم نفسه أحد ضحايا اليهود ويعبر عن مأساته في نص شعري أو نثري.اشتاط الأب غضبا وذهب في اليوم التالي للمدرسة متسائلا عن طبيعة المنهج الذي يدرسه ابنه، وطالب بالتحقيق في الموضوع، لكن المدرسة لازمت الصمت فعقد الأب العزم علي نقل ابنه لمدرسة أخري بعد انتهاء امتحانات آخر العام.هذا ما حكاه لي السياسي البارز ورجل الأعمال مجدي المعصراوي الذي يعيش الآن مأساة حقيقية بعد أن شوهت أفكار ابنه محمد، محاولا تصحيحها عبر جهد ربما ينجح فيه بما يمتلكه من وعي ومعرفة، ولكن ماذا عن الطلبة الآخرين الذين انساقوا وراء هذه الأفكار المغلوطة، ليزج بهم في محرقة جديدة لتشويه الهوية.وبالطبع ليس هناك حاجة للسؤال عن وزارة "لا تربية ولا تعليم" التي سمحت لهذه المدارس أن تعيث فسادا في عقول أبنائنا، لتصور اليهود وكأنهم وحدهم المعذبون في الأرض عبر صفحات التاريخ الأعمي الذي أسقط عن قصد مآسي ملايين الجزائريين الذين مورست ضدهم أبشع صور التعذيب تحت الاستعمار الفرنسي، وحتي الآن مازالت آلة الاحتلال الأمريكي والبريطاني تشرد وتعذب وتقتل العراقيين كل يوم، تزامنا مع استمرار الاسرائيليين في تصفية الشعب الفلسطيني.ورغم فداحة ما ترتكبه المدارس الأجنبية، فإنه لا يوازي ما جلبته علينا سياسات العولمة والانفتاح علي الآخر من خراب في مدارسنا، وتضافرت معها يد سماسرة تفكيك الوطن، الذين أقروا أخيراً رفع أي مواد تعليمية بها ولو أدني شبهة عداء لليهود، إعلاء لفضيلة ما يسمونه "السلام" الذي يصبح رذيلة حين نرفع أصواتنا مطالبين بالعدل وعودة الحقوق لأصحابها والحفاظ علي هوية شعوبنا!


زينب حسن
8 يونيه 2009