الاثنين، 3 أغسطس 2009

والله ما معايا غيره


علي آخر كرسي في كنبة الميكروباص جلس منزوياً بجوار النافذة، وحركة رأسه لا تنقطع عن متابعة الشارع الذي يجري أمامه والفتي الواقف علي الباب هناك ينادي: جيزة ـ جامعة ـ دقي.وجه أسمر في مقتبل العمر، تتملك عينيه حيرة لا تختلف كثيرًا عن هؤلاء الذين يعبرون أيامنا كل يوم، ولا يعرفون من أين أتوا وإلي أين يذهبون!يده لا تعرف طريقاً سوي حافة الكاب فوق هامته، يشدها بعصبية كمن يريد إخفاء نفسه عن العيون.تمتلئ الكراسي وتلتحم الأجساد داخل الصندوق الحديدي، ومعها يعلو صوت أنفاسه، الذي يصارع العرق المنهمر علي وجنتيه وجبينه، كأن تحته جمراً.
لا ساعة في يديه أو موبايل كالآخرين، يكسر معه الخجل الذي أطل من ملامحه، عابراً السواد الملفوف حول عينيه من فرط الإرهاق وربما من سهر الليالي التي أجهدت الجسد النحيف وجعلته يترنح داخل ملابسه الفضفاضة.. لا أدري لماذا جاءني حينها قول محمود درويش: نحن من نحن ولا نسأل.. من نحن فمازلنا هنا.. نرتق ثوب الأزلية.. نحن أبناء الهواء الساخن ـ البارد.. الماء وأبناء الثري والنار والضوء...وفجأة ذهبت عني خواطري حين انتفض علي قدوم الفتي يسأل الراكبين جنيهاً أجراً للتوصيلة، وعندما أصبح في مواجهته، وقف منتصباً، واقترب من وجه الفتي علي استحياء، ومد يده بربع جنيه فضي وقال له همساً، محاولاً الفرار من العيون حوله: «والله ما معايا غيره»..ثوان قليلة حملت أثقال الزمن الرديء وأوجاعه مرت كالجبل في انكسار عينيه التي اخترقتهما الدموع، ولم يكن انتظار الجواب ثقيلاً عليه وحده، كأن الذل انقسم علي الحاضرين، ورشق في القلوب سهاماً كان في عيونهم لها ذكري من مشاهد أخري للفقر الصديق.في صمت سحب الفتي ما في يديه وانسحب وخرجت من بين الشفتين المشقوقتين تنهيدة طويلة، رمت ريحها الجميع بالحسرة والحزن، ولم يكن غريباً أن تحاول العيون الهروب عنه، بعد أن فر بعينيه إلي النافذة ينظر إلي ألمه المتبعثر في الميدان الكبير.حبست أنفاسي وارتميت مرة أخري في كلمات درويش: للخوف ملمس ثعلب يعوي فلا ندري.. تروضنا الثعالب أم نروضها ونخشي جاذبية كل شيء غامض.. ونحبها كي نبلغ المجهول، لكني أخاف علي طريقتي في جس نبض الكون.. أحياناً أخاف علي من غيري، وأخشي دائماً نفسي الشريدة..


زينب حسن

3 أغسطس 2009