الخميس، 26 ديسمبر 2013

أم رانيا

 
 

 لغة جسدها تصدر لكل من يقترب منها إشارات التحدى المحفور على ثنايا وجهها الخجول، الذى تداريه بنظارتها الشمسية.

فى ميدان رمسيس تبدأ يومها، بموقف سيارات الأجرة المتجهة إلى الإسكندرية، فبعد أن يمتلأ الميكروباص بالركاب، تهم أم رانيا وتأخذ جلستها على مقعد السائق.. يسود الصمت للحظات، وبعدها تنفجر التعليقات الساخرة كالطوفان على "السيدة سائق الميكروباص".. لكنها بجرأة المعتاد على الرد تسكت الألسنة بلسعات الألفاظ التى وإن تحمل بعض التجاوز، فإنها تمتزج بروح الاعتزاز بمهنتها، وكرامة العمل الصعب الذى اختارته بديلا عن سؤال الحاجة، أو مهن أخرى يمكن أن تلجأ لها سيدة فى زمن الفقر والاحتياج!

فى استراحة الطريق، يقتحم بعض الركاب جلستها مع عمال الكافيتريات الذين يرحبون بها ويأتون لها بكوب القهوة دون أن تطلبه، وإذا شعرت بقبول للحديث تبدأ بالكلام عن أمور حياتها وتسوق التبريرات التى تجعلها تندفع بشكل هجومى فى الرد على الركاب الساخرين منها.. حينها سترفع نظارتها ليظهر الوجه الذى أخفته النظارة الكبيرة طوال الطريق، ليكشف عن عجوز تعدت الخمسين على الأقل.. وبدون كلام تتساءل باندهاش عن الظروف التى تجعل مثلها يمتهن هذه المهنة الصعبة، قد تعرف خلال الرحلة أو لا تعرف أنها سيدة تجرى وراء كسب ما يكفيها لسد احتياجات بناتها الثلاث طالبات الجامعة، والتى صممت أم رانيا بعد وفاة أبيهم أن تكمل معهم مشوار الحياة، ووفاء لزوجها تريد أن يصبحن خريجات جامعة كما كان يحلم أبوهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 نشر فى جريدة الكرامة 2011
 

الاثنين، 16 ديسمبر 2013

ميلاد على شهادة وفاة


 
 


 
 

إنه اليوم الذى انتظره محمود طويلا بعد عشرة أعوام زواج، ترددت فيها زوجته على عيادات المراكز الطبية منخفضة التكاليف، من طبيب لآخر وتحاليل وأشعات كان زوجها يتكبد عناء تكاليفها بالعمل فى أكثر من مكان أملا فى حلم الإنجاب من زوجته التى أحبها منذ الصغر، وها هو الحلم يتحقق بفضل الله الذى وضع فى رحم زوجته توأمين وتوجها معا إلى مستشفى الجلاء للولادة بعد أن جمع الرجل قيمة الولادة القيصرية ودفعها فى الحسابات ووقف بانتظار قدوم الصغيرين، وإذا بالممرضة تخبره أن الأم بحاجة إلى حقنة الـ "R.H" نظرا لاختلاف فصيلتى الدم بينه وبين زوجته، لم يكن فى جيبه سوى 250 جنيها بينما سعر الحقنة 300 جنيه، لأول مرة فى حياته يبكى متوسلا للموظفين والممرضات في المستشفى، من أجل إعطاء زوجته الحقنة ويترك بطاقته لحين سداد باقى قيمتها، لكن لا حياة لمن تنادى..

انهمرت دموعه من فرط ذل الموقف الذى استنجد فيه بأحد الأطباء ليستجيب لطلبه، ووصل به الأمر أن قبل حذاءه، فإذا بالطبيب يرد ببرود: "دى حاجة تخص المستشفى، وليس لى دخل بها".

 المأساة كانت أكبر من ذلك.. اتصل بأخيه لجلب باقى المبلغ وانتهت المشكلة، لكن يبدو أن حالة التوأم جعلتهما بحاجة إلى وضعهما في الحضانة، ولأن المستشفى ليس بها واحدة فارغة، فهو مجبر أن يحجز لهما فى مستشفى آخر، بإيجار يومى 200 جنيها! وقف محمود فى حالة ذهول بعد أن انقلبت فرحته على هذا النحو من الحزن والغم، ولم يجد سبيلا سوى العودة للبيت محاولا بيع أى شئ فيه بعد أن أغلقت كل أبواب الرحمة فى وجهه..
 

الاثنين، 9 ديسمبر 2013

مريم وعبير



 

تقاسما منذ الصغر ميراث المحبة التى جمعت أسرتيهما.. تجاورت أحلامهما كما تجاور منزلهما بقرية التمساحية بمحافظة أسيوط، تلازما طوال يومهما حتى عندما تذهب مريم للكنيسة يوم الأحد تذهب عبير معها وتجلس فى مقعد خلفى حتى ينتهى القداس ويعودا معا للمنزل، وفى المدرسة بنيا معا قصور أمانيهما لاستكمال الدراسة ودخول كلية الطب، لكنهما تصادما بقرار أبويهما الاكتفاء بالشهادة الابتدائية، بحجة أن البنت مكانها الطبيعى هو البيت فى انتظار ابن الحلال.. تحولت الليالى الدافئة إلى جبال من الحزن على المستقبل المبتور بثقافة النظرة المتدنية للبنات فى المجتمع الصعيدى الذى لم يلحق بقطار التنمية والاهتمام لعقود عديدة.

تمر الأيام وتفتك الحسرة بقلبى ابنتى السادسة عشر ربيعا، إلى أنت تنجح مريم فى إقناع والدها بالذهاب إلى فصول الإعدادى التى تنظمها جمعية "جيزويت" بمركز المحافظة ، وعندما أرادت عبير مرافقة صديقتها لم يوافق أبوها رغم محاولات إقناعه من أفراد الأسرتين، فقررت مريم الذهاب كل يوم فى رحلة تستغرق منها حوالى الساعتين فى الذهاب والإياب، ونظرا لتفوقها ومحبة الناس لها بالجمعية طلبت منهم إدراج اسم عبير فى الفصول وتحملت هى مسئولية إعطائها الدروس يوميا دون الالتزام بالحضور إلا لأداء الامتحانات، وبالفعل لم تخالف مريم التزامها وتذهب يوميا لتحصيل الدروس لتعود رغم مشقة الطريق إلى منزل عبير محملة بروح المحبة والإصرار لصديقة عمرها ويواصلا معا رحلة النجاح والتفوق ليحصلا على الشهادة الإعدادية ونيتهما تكملة المشوار ليستعيدا معا الحلم القديم بأن يرتديا البالطو الأبيض ويخففا عن الناس آلام الأبدان بقدر ما تحملان من صحة واستقامة روحهما فى مجتمع لا تستقيم فيه أشياء كثيرة.