- لحظة الشهادة اختبار إنسانى للحفاظ على الكرامة
- تنتهى الأوطان بل الحياة كلها إذا غاب فرسانها وشهدائها
- الرفاعى يثأر لقائده عبدالمنعم رياض ويمتطى حصان الشهادة بعد استرداد الأرض
كالذى أتى عليه حين من الدهر يروى لنا الشهيد كيف اصطفاه الله كآدم، عندما شكله من الطين وتركه أربعين عاما حتى نفخ فيه الروح وأسكنه الجنة، تماما كالحى عند ربه تنتظره روحه من الأبد، لا تخطئه ولا يخطئ هو مشواره حتى ساعة الشهادة.. تلك إرادة الله من فوق سبع سموات، من أول الخلق كتبت قبل 9 مارس ذكرى استشهاد البطل عبدالمنعم رياض، وستظل إلى أن تقوم الأرض بمن عليها.
وعجب من زمان هالك جرؤنا فيه أن نسأل: من هو الشهيد؟
من نسل إلى نسل بقيت ذرية آدم، ومن كرامة إلى كرامة ستظل ذرية الشهيد، فالذين يرزقهم الله ويفرحهم وينزع عنهم الخوف والحزن، هم صفوة مختارة آتين لرسالة وقيمة، يضرب بها الله الأمثال للناس ويعلمهم كيف يرفعهم عن بعض درجات، والقيمة العليا فى الإنسان هى الكرامة، لذلك مهما اختلفنا على خلفيات الأبطال وسيرهم، سنجد أن لحظة الشهادة هى اختبار للبطل فى الحفاظ على كرامته.. من الدعوة إلى الله والجهاد ضد أعداء دينه.. ومن استرداد الأرض والثأر للشرف، ومن الانتصار للعزة والكبرياء، ومن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، تأتينا حكايات الشهداء سيرا للأديان والأوطان وتكريما لأرقى ما خلقه الله فى الإنسان..
وهو ما كان يستقر فى وجدان الفريق الشهيد عبدالمنعم رياض، وعبر عنه بعد حرب 1967 بقوله: "لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة، وعندما أقول شرف البلد، فلا أعنى التجريد وإنما أعنى شرف كل فرد.. شرف كل رجل وكل امرأة"
لذلك يخطئ من يظن أن الاستشهاد نهاية، بل هو كما فى السماء بداية لحياة جديدة، لكنها على الأرض كحصان ينزل من عليه فارسه ليمتطيه غيره، مثلما يخبرنا محمود درويش:
لماذا تركت الحصان وحيدا؟
ـ لكى يؤنس البيت يا ولدى.. فالبيوت تموت إذا غاب سكانها
وهكذا هى الأوطان، بل الحياة كلها، تنتهى إذا غاب فرسانها وشهدائها..
يوم الشهيد
ما خرج الشهداء إلا لإعلاء قيمة أو مطلب مشروع أو حق غائب سعوا لاسترداده، لذلك لا تكريم ولا احتفال ولا ذكرى تنفعنا، طالما بقيت الحقوق غائبة والقيم تائهة والضمائر متلونة، فتكريم الشهداء يكون بتحقيق ما استشهدوا من أجله، وهذا أكبر درس نستدعيه اليوم 9 مارس فى ذكرى استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان القوات المسلحة، القائد الذى خاض معركة كرامة من أجل استرداد أرض سيناء بعد هزيمة الجيش المصرى من اسرائيل عام 1967، والثأر لآلاف الشهداء ممن سقطوا فى المعارك أو اغتيلوا غدرا بعد وقوعهم فى الأسر.
فبعد تكليف الرئيس جمال عبد الناصر للفريق رياض بقيادة الأركان عقب الهزيمة، كانت المهمة الأولى استعادة الثقة للجيش، بدأها بعد أيام قليلة بعمليات نوعية، مثل معركة "رأس العش" حيث قامت مجموعة قتالية من قوات الصاعقة بوقف تقدم الاسرائيليين نحو بورفؤاد ومنع احتلالها، وعلى إثرها انطلقت شرارة حرب الاستنزاف التى كبدت الصهاينة خسائر جسيمة، ومنها تدمير المدمرة "إيلات" فى 12 أكتوبر 1967، وإسقاط طائرات ومهاجمة مواقع استراتيجية للعدو فى الضفة الشرقية للقناة.
بالتوازى مع تلك العمليات قام رئيس الأركان بإعادة بناء العنصر البشرى، وتدريب الجنود على فنون قتالية جديدة، بعضها كان استثنائيا، فكيف لرجل أن يقف أمام دبابة يهاجمها ويدمرها، هذا ما أحدثه الفريق رياض بتدريب جنود المدرعات والمشاه على ذلك، وتجلى ذلك فى حرب أكتوبر، عندما قنص الجنود المصريون مئات الدبابات الاسرائيلية، ومن بينهم الرقيب محمد عبدالعاطى الذى لقب بـ"صائد الدبابات"، وحصل على نجمة سيناء لتمكنه من تدمير 23 دبابة.
وهكذا صنع الفريق رياض أسطورته، عبر رحلة كفاح طويلة اتبع فيها منهجا علميا ليس فى تحصيل العلوم العسكرية فحسب، بل أيضا فى بناء ذاته وتعظيم قدراته الشخصية والقتالية، التى جعلته صاحب فلسفة استقت من منابعها الأكاديميات العسكرية داخل وخارج مصر، وتقلد على إثرها مناصب وأوسمة عديدة، قال هو عنها: لا أصدق أن القادة يولدون، إن الذى يولد قائدا هو فلتة من الفلتات التى لا يقاس عليها كخالد بن الوليد مثلا، ولكن العسكريون يصنعون، يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة. إن ما نحتاج إليه هو بناء القادة وصنعهم، والقائد الذى يقود هو الذى يملك القدرة على إصدار القرار فى الوقت المناسب وليس مجرد القائد الذى يملك سلطة إصدار القرار".
وفى الوقت المحدد جاء القرار كما يخبرنا اللواء حسام سويلم أحد شهود العيان فى استشهاد الفريق رياض، الذى واصل بناء الخطط وتصعيد العمليات فى حرب الاستنزاف، ووضع القواعد الأولية لتدمير خط بارليف التى طورت فيما بعد بالخطة "بدر" فى حرب أكتوبر، وبالفعل نجحت هذه الخطوات فى تحويله من خط دفاع إلى منطقة اشتباكات، وصلت ذروتها يوم 8 مارس 1969، حين أشرف رئيس الأركان على عمليات ضرب المدفعية الاسرائيلية بشراسة على خط بارليف، وأوقع بها خسائر جسيمة، وصلت بحسب التقديرات إلى تدمير مايقرب من 60% من القدرات القتالية لقوات العدو فى تلك المنطقة.
وفى صبيحة اليوم التالى جاء النداء ويقرر القائد أن يكون وسط جنوده على جبهة القتال، وبحسب اللواء سويلم الذى كان فى ذلك اليوم فى وحدته التابعة لسلاح المدفعية بمستشفى هيئة قناة السويس بالاسماعيلية، اختار الفريق رياض المعبر 6 بموقع لسان التمساح الذى شهد أشرس المعارك فى اليوم السابق، وهبط بطائرته الهليكوبتر هناك، وهو ما استرعى انتباه الجنود الاسرائيليين، وشعروا أنه ربما تجهيزا لعمليات مصرية جديدة، فبادروا بضرب الموقع بقذائف الهاون التى أصابت إحداها الدشمة التى احتمى بها الفريق رياض، فيما أسماها العدو فيما بعد "الضربة الذهبية" وتمت إصابته ونقل إلى مستشفى الهيئة، وكان قضاء الله أكبر من محاولات إنقاذه.
الشهادة اختيار
بعد أن ترجل الفارس، كانت هذه الواقعة بداية لمعركة كرامة جديدة، وامتطى جواده بطل شجاع، ليس للثأر من الصهاينة الذين قضوا على قائد المعركة وسط جنوده، وهى هزة عنيفة لجيش لازال يعيد بناء نفسه وتطوير قدراته، لكن الهدف كان أكبر، فأفضل وسيلة للانتقام كانت بالنسبة لرجال رياض فى بلوغ أهدافه وتكملة مشواره وتحقيق ما استشهد من أجله..
يقول اللواء حسام سويلم جاء الرد على استشهاد الفريق رياض سريعا وتحديدا فى اليوم التالى حين قام العقيد أركان ابراهيم الرفاعى قائد "المجموعة 39" صاعقة، بعبور بحيرة التمساح والوصول إلى الموقع الذى انطلقت منه القذائف نحو الفريق رياض، ودمره مع رجاله بالكامل وأبادوا كل من فيه من جنود العدو، وكانت وحدة اللواء سويلم فى هذه العملية مكلفة بتأمين رجوع أفرادها، وعادوا جميعا سالمين. وتوالت ضربات الرفاعى الذى استشهد فى معرك ثغرة "الدفرسوار" عقب انتصار أكتوبر 1937، بعد أن ثأر لقائده بتحقيق ما أراده وتم استرداد أرض سيناء من المغتصب الصهيونى.
هكذا هى رحلات الشهداء، عبور من هدف إلى آخر لتكتمل الرسالة، والرسالة الآن فى 2014 كما يراها اللواء سويلم، هى حرب كرامة جديدة ضد من أرادوا تفتيت هذا الوطن، وتغيير هويته والتفريط فى تضحيات أبنائه عبر تاريخه الطويل، مشيرا إلى أن مصر تواجه حربا من جماعة الإخوان وأعوانها، وأن الانتصار فيها لن يأتى إلا بتعميق قيم الانتماء والفداء من أجل الحفاظ على وحدة الوطن وتماسكه.
فى ذات السياق جاءت كلمات اللواء طلعت مسلم مؤكدا أن الاحتفال بيوم الشهيد لا يكون عن طريق الأغانى والبرامج الوثائقية التى تحكى واقعة وتسرد تفاصيلها وحسب، لكن الأمر يحتاج إلى استعادة قيم الشهادة ودلالاتها، من حب الوطن والتعاون والعمل المشترك، فالشهادة ليست هدفا لذاتها، بل هى قيمة اجتماعية وانسانية جعلت أصحابها يضحون بأنفسهم، وعلينا أن نمسك بجمرة تحقيقها، ويخضع للمحاسبة والعقاب كل من يقف عثرة أمام ذلك.
ويضيف مسلم أن الاهتمام بأسر الشهداء هو أبلغ تكريم لهم، ولا يكون ذلك بالتعويضات المالية، بل الأمر يحتاج إلى آليات أكبر بتعظيم دور الرعاية الشعبية، من خلال مؤسسات أهلية تكون على تواصل حقيقى بأبناء وآباء وأمهات وزوجات الشهداء، ويشاركوهم فى أنشطة اجتماعية وثقافية، وجولات شعبية يتم فيها بالتعريف بمآثر التضحيات التى قدمها هؤلاء الشهداء، ويمكن البدء بجماعات صغيرة فى كل قرية أو مدينة أو حى به شهيد، وأشار أيضا أن هذه الخطوات من شأنها إبراز أسماء لا حصر لها من قوائم الشهداء الذين قدموا أرواحهم فداء للوطن ولا يعرف عنهم أحدا شيئا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى جريدة التحريرمارس 2014
رااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااائع يأستاذه
ردحذفمحمدشوقى
شكرا لرسالتك الرقيقة واهتمامك الكريم
حذف