اجمع أوراقك يا فتى، وقف بشموخ على باب الجنة..
أشر على ما تشاء، ووزع ابتساماتك على الغرباء، فقد حانت ساعة اللقاء، وآن للنخل الذى خرج مع أدم أن يعود إلى حيث كان..
وحين تمر على الخليل فى سدرة المنتهى، اذكرنا فى عيون الأطفال من حوله، فقد أضحينا من بعدك يتامى..
وحين تشرب ماء الكوثر من كف الحبيب المصطفى، ادعو لنا الله أن يهبنا القدرة على تحمل عطش فراقك..
أراك الآن بين الأحبة.. أبطالك المجاهدون هبوا لاستقبالك فكيف هى وجوه الحسين وجده وأبيه، وهل أهداك صلاح الدين عباءته التى نزل بها القدس أم سيفه فى معركة حطين، وربما رحت تقبل رأس ناصر فوجدته فى حضرة عبدالمنعم رياض والشاذلى ونور الدين..
والله لن أبكيك يا رجل مر على زماننا ليمنحنا أجمل ما فينا، وهل مثلك يا دكتور عزازى تكتبه كلمات الرثاء، نحن نرثى حالنا ونصبر أنفسنا بأننا كنا يوما رفقاء..
لى من بين أوراقك صفحات، أجمعها الآن لا للذكرى فمثلك لا يطويه النسيان، ولكن لأتدثر بها من برد الزمان، الذى اعتاد أن يعاندنى ويخطف من زهور عمرى الواحد تلو الآخر..
الصفحة الأولى
ورقة قديمة شبه ممزقة أخرجها لى حمدى صباحى من محفظته، وراح يقرأ لى تلك القصيدة عن الشهيدتين لطيفة وفتحية، اللتان سقطتا فى معركة التزوير ضد حمدين صباحى ببلطيم أثناء انتخابات برلمان 1995، وبينما يتلو الكلمات انهمرت دموعى من روعة وجلال المشهد الذى لم أحضره، وبصفائه المعهود أهدانى حمدى الورقة، وهو يوصينى بها، لأنها النسخة الوحيدة المكتوبة بخط صاحبها الدكتور عزازى على عزازى، وكانت هذه أول مرة اسمع فيها اسمه فأحببته قبل أن أراه، فمن يكتب بمثل هذه الروح لابد وأنه يحمل قلبا من ذهب. فيما بعد حاول الدكتور عزازى أكثر من مرة استعادة تلك الورقة، لكننى لم أستجب، فكيف لى أن أفرط فى هدية حمدى حتى ولو لصاحبها الأصلى، أمسكها الآن وأشتم بلمسة يديكما عليها رائحة الجنة.
الصفحة الثانية
حادث أول يخطف الصديق الغالى صلاح عزازى وابنه، بينما تخوض الأخت الحبيبة كوكب محسن رحلة علاج شاقة بعد أن نجت من الموت، وينجو أيضا الدكتور عزازى وأسرته، وكانوا جميعا عائدين من قريتهم "أكياد" بالشرقية بعد أن حضروا حفل زفاف أحد الأقارب.. بعد عامين يغيب الموت أبو ابنتى هيا حمدى صباحى فى حادث آخر بالسعودية، ليلحق برفيق عمره صلاح عزازى، يبدو أنهما لم يحتملا الفراق، فجاء لقائهما سريعا.. أولعلهما كانا يجيبان على تساؤل صلاح جاهين: أجمل ولاد الحياة ليه بدرى بيموتوا؟ فى خضام هذه الأجواء توطدت علاقتى بالدكتور عزازى الشقيق الأكبر لصلاح، وكان لحمدى كذلك وللكثير من جيلهما، الذين وجدوا فيه رمزا وقيمة تعبر بصدق عن التجربة الناصرية، ولم يحيد طوال حياته عن مبادئها، ودفع من أجل ذلك تضحيات كبيرة، كان يدرك بشفافيته أنها لن تضيع حتى وإن لم يحصد هو ثمارها، فسيأتى جيل يكمل المسيرة ويحصد تاريخ طويل من النضال والكفاح من أجل حقوق الفقراء، ملح الأرض الذى كان هو أبهى حباته، الفلاح ابن الفلاح الذى ترتسم على وجهه علامات الصمود لثورة حلم بها وعاش يبشر بها، ولم يبخل الله عليه أن يحياها ويشارك فيها، وحين شعر أنها تحيد عن مسارها لم يتردد ولو للحظة فى التخلى عن أحد كراسى سلطتها كمحافظ للشرقية، ولم يرض أن يكون مشاركا فى نظام يرأسه رئيس إخوانى.. أى الرجال كنت يا دكتور عزازى ومن أى زمن جئت؟ الآن لا تحتاج الإجابة لأى اجتهاد..
الصفحة الثالثة
الرجل الذى يعشق أمه لا يمكن أن تخاف منه، تأمنه على روحك وأنت مطمئن، هكذا كان الدكتور عزازى قطعة من قلب أمه التى كان يهفو إليها كطائر سابح فى الملكوت الربانى، لكن كان يحفظ مواسم هجرته إليها، يقبل يديها ويجلس عند قدميها وينعس حين تمرر كفها على رأسه، وحين تمنعه المسئوليات عن الذهاب إليها فى الشرقية، يهاتفها ويظل بالساعات يحادثها فى أمور الدنيا من شرقها وغربها، يستأنس بفطرتها البرئية، ويسترشد بحكمتها، ويظل يغازلها كحبيبة بكلمات العشق والدلع، وفى أكثر من مرة أدعى أننى كشفت سره، فإذا به يعطينى التليفون لأسلم على أمنا الحبيبة –أم صلاح وعزازى- السيدة العفيفة التى كرمها الله بمنزلة الأولياء الصالحين، وابتلاها بفقد اثنين من أولادها وهى صابرة مستبشرة، هذا ما كان يجعله دائم السؤال على أمى التى دخلت فى الاختبار الصعب بعد وفاة أخى وأختى فى شهور قليلة، يوصينى بها ما حييت ويكرر على مسامعى أروع ما يعرف من الأدعية لها ولأمه، منوها دائما بأنهما سيكونا طريقنا إلى الجنة.. والآن تدخل أمه الحبيبة فى مصاب جديد بفقد ابنها البار الأعز والأكرم، فاللهم اسبغ عليها صبرا ورحمة بحق كل القلوب التى تعلقت بخير من أنجبت هى بين النساء.. وطب يا معلمى فى الفردوس.
الصفحة الرابعة
كمركب تقاذفته الأمواج بين مد وجزر، كانت تجربة جريدة الكرامة التى بقدر ما حملت من آمال وطموحات، عانت إحباطات وعثرات، لكن فى كل الأحوال خرج كل من شارك فيها بأروع تجربة إنسانية يمكن أن يصادفها فى حياته، زملاء عمل ورفقاء نضال وأجيال حالمة، اختلفوا وتنازعوا وتشاجروا، لكنهم ظلوا فى غمرة كل ذلك متمسكون بروح المحبة والمشاركة التى جمعت بينهم ليس على طاولة العمل فقط، بل تقاسموا أيضا العيش والملح، وحملوا مع كل قضمة حلم وألم، ورشفوا مع كل شربة ماء أو شاى عبء وأمل. وسط ذلك كان عزازى فى فترة رئاسته لتحرير الكرامة ربان ماهر، حاول بكل ما استطاع من قوة بأسه وروعة صبره واحتماله، أن يحتوينا رغم اختلافاتنا الحادة المركبة، واندفاعات البعض منا، وهو فى الخلف يتحمل المسئولية فى وقت عصيب إداريا وماليا وسياسيا، وحين وصلت بعض الخلافات ذروتها وقمت مع بعض الزملاء بإعلان انسحابنا من العمل نتيجة إغفال الإدارة لبعض الحقوق المتراكمة، وشعورنا بعدم التقدير، غضب الدكتور من موقفنا وبادلنا عصيانا بعصيان، لكنه أبدا لم يكن قاسيا، متخذا موقف الأب المتشدد فى عقاب صغاره لكنه أبدا لا يستغرق فى الخصومة أو يستمرأها.. وها هى تمر السنوات وتظل فترة العمل معه هى الأروع والأجمل والأفضل، فيكفى أن يكون المرء منا بالقرب من رجل مثله، نختلف معه لكن لا نختلف عليه.
الصفحة الخامسة
بعد أزمة استقال على إثرها الدكتور عزازى من رئاسة تحرير الكرامة، وقع أخى محمد رحمه الله عليه فى أزمة صحية عنيفة، وظل فى غيبوبة لأكثر من شهر ونصف، لم يتوانى خلالها الدكتور عزازى رغم ما كان بيننا من خلاف حينها، فى تقديم يد المساعدة ومجهوداته التى لم تنقطع ليس للسؤال فقط بل أيضا بالاتصال بكل من يعرفهم من المسئولين لتحسين الخدمة المقدمة لمحمد فى العناية المركزة، وحين سمح لنا الأطباء بنقله لمستشفى آخر، وفر لنا الدكتور الفاضل عمرو حلمى مكانا بمستشفى محمود بعد اتصال الدكتور عزازى به، وبعد أيام تلقى أخى خلالها خدمة طبية عالية المستشفى، كان قضاء الله أكبر من محاولات إنقاذه، ربما حان وقت الشكر، لك ولصديقك الدكتور عمرو حلمى حفظه الله وفريقه الطبى، لكن المخلصين من أمثالك يا عزازى يا ابن البلد المعجون بطين البلد وطيبتها، لم تكن تنتظر جزاء أو شكرا، وأثق أنك حين تلتقى محمد فى الجنة سيشكرك بنفسه ولنفسه ولنا جميعا أنا وغيرى ممن وقفت إلى جوارهم فى ظروف عصيبة>
صفحة ليست أخيرة
كنت أظن أننى اعتدت تلقى سهام الموت المفاجئ ولم يعد عندى رصيد من الحزن على فقيد جديد، وها هى طعنة أخرى رشقت فى قلبى برحيلك، فرغم معرفتى بخطورة ودقة مرضك، وما عانيته قبل وبعد إجراء الجراحة، كنت أتمسك بجمرة أمل يطالعنى فيها وجهك بغتة سليما معافا، مثلما جئتنى فى الحلم أكثر من مرة، وكنت كعادتك تبادرنى بقبلة على رأسى.. لكن يبدو أن ذلك كان تمهيدا للوداع، الذى لم يمهلنى فيه القدر أن أقبل رأسك امتنانا وعرفانا.. وعزائى أنك الآن بصحبة الرائعين حمدى صباحى وصلاح عزازى وعماد هندى، وأعرف أنكم ستجتمعون بأبى وأخى محمد وأختى رشا، عليكم جميعا سلام من الله ومحبة من قلوب أفضتم عليها رصيدا وفيرا من ثمار نخيلكم يكفينا حتى اللقاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى جريدة صوت الأمة _ مارس 2014