"اللى ما يشلنى ورد
على راسه ما استعناهوش
جزمة فى رجلى"
ثمة بذرة قمح فى الأرض
تتأهب لتشق جدار الزمان
فلا تقف أمام
سنابلها
بالحب تحملها عجينا
وبالغدر تتلقاها خناجرا
إذا بدأت الست المصرية ثورتها بنشر ملاءة
سريرها الحمراء فى البلكونة وكتبت عليها "ارحل" فقل لكل حاكم اذهب بغير
سلام..
هكذا تحدثت مصر عن نفسها فى تلك الأمواج
الهادرة من حرائر نساء مصر، الذين كتبوا صفحة جديدة فى تاريخ ما عرف من ثورات
الأرض، فى وجه الخوف والترهيب والتهديد انطلقت فى كل شارع وحارة وقرية ومدينة
زغرودة مدوية شقت عنان السماء على أنغام الفرح بعد أن عزف المصريون لحن العزة
والصمود والكرامة فى 30 يونيو.. لترد المرأة المصرية على من ادعوا عليها العورة
أنها هى الثورة.. ثورة ضد الاستبداد.. ثورة على الظلم.. بل ثورة على الثورة.
إنها مفردات حياة جديدة رأيتها فى تلك الوجوه
من البنات والسيدات اللاتى تحولت ملامحهم المنهكة فى غمضة عين عذوبة وسعادة غامرة
كست مصر كلها ولونتها بفرح لن ينتهى وجاء يوم الأربعاء الثالث من يوليو ليسكب على
حياتنا ضياء ويكتب لشعبنا خريطة المستقبل وأن خير أجناد الأرض معهم فى كل بيت
جنودا لحماية ثورتنا المجيدة حتى تكتمل، وتتأكد رسالة تلك العجوز التى جاورتنى فى
الميدان وقالت لى "اللى ما يشلنى ورد على راسه ما استعناهوش جزمة فى رجلى"
سنة كاملة تحملت فيها
مصر الكثير وفى القلب كانت النساء الذين تلقوا من كل صوب سهام الغدر سبا
وقذفا وتحرشا وإيذاء بالقول والفعل والاستعداء فى زمن الاخوان وأعوانهم من تجار
الدين. لكنهن كانوا على العهد ثابتين، فهذا الوطن مهما طال ليله وزاد سواده، به
مكان للأحلام البسيطة المشروعة المعجونة بكد وعرق رجاله وشموخ نسائه بالصبر مرة وبالتحدى
مرات.
ووراء كل الوجوه حكايات............
أمى
منذ أن وقعت أمى على استمارة تمرد وهى تدعو الله أن يحفظ
شباب مصر، تجلس أمام التليفزيون تتابع شاشات الأخبار الواحدة تلو الأخرى وتتأكد
يوما بعد يوم بحسها الفطرى وحدسها الذى لا يخيب أن مرسى راحل لا محالة، ورأيتها
تجئ بعلم مصر وعلقته فى البلكونة بعد أن كتبت عليه "30 يونيو.. يوم الحرية"
لكنها مع اقتراب المظاهرات ازداد خوفها خاصة بعد التهديدات التى أطلقها أنصار
مرسى، ووجدتها تدعونى فى خجل ألا أنزل، وراحت فى بكاء محموم.. ووالله حينها لم
أعلم هل تبكى على شقيقى محمد وشقيقتى رشا اللذين فقدناهم خلال العامين الماضيين فى
حادثين لا يفصلهما سوى شهور قليلة وتخاف أن ألحق بهم، أم أنها تبكى على كل شهداء
مصر منذ 25 يناير وتدعو فى كل صلاة لهم بالرحمة ولأمهاتهم بالصبر.. لم تتشبث كثيرا
بموقفها حتى يوم الحشد العظيم ورأت بعينها الملايين فى الشوارع فقالت انزلوا
والحديث لى ولأخى أحمد وأولادى وأولاد شقيقتى هاتوا حقكم وحق البلد كلها، وراحت
تدعو "اللهم بلغنا رمضان من غير الاخوان".
أميمة
بعد خطاب المعزول مرسى فى استاد القاهرة حدثتنى صديقتى
أميمة وهى منفعلة وتصرخ فى التليفون أنا هانزل يوم 30 يونيو وتستحلف بالله أنها لن
تعود لبيتها مع ابنتيها حتى يرحل هذا الرجل الذى أساء لنا كما لم يفعل أعداؤنا على
مر التاريخ، وراحت تصرخ سأقول لكل جيرانى وأصحابى وأهلى وترجونى أن أدعو كل من
أعرفهم للنزول حتى لوكان الثمن حياتنا، فالموت فى لحظة كما تقول أهون من الموت
كمدا فى زمن هؤلاء الأغبياء الذين يذهبون بنا إلى الجحيم وهم كالعميان لا يرون غير
أنفسهم وأهلهم وعشيرتهم".
هيا وأدهم ومحمد ووعد
ابنتى هيا منذ أن انتهت من امتحانات آخر العام فى الصف
الأول الاعدادى كان جدول أعمالها توزيع استمارات تمرد وجمع التوقيعات فى شوارع باب
الخلق، وزملائها بالمدرسة والمدرسين وكم كانت تفرح عندما يزداد لديها العدد وكلما
تقوم بتصوير نسخ جديدة لاستمارة سحب الثقة من مرسى العياط يقوم صاحب محل التصوير
بإهدائها أعدادا تزيد عما تطلب تشجيعا لها، أما أدهم ابن شقيقتى وهو فى الخامسة من
عمره فيهب نفسه للهتاف يوميا فى البلكونة "مصر مصر تحيا مصر" "الشعب
يريد اسقاط النظام" "هو يمشى مش هنمشى" "ثوار أحرار هنكمل
المشوار" ويرد ورائه أبناء الجيران، وحين تنقطع الكهرباء يسارع بالقول
"الله يخرب بيتك يا مرسى".. محمد ابنى الصغير ذو العامين يردد وراء أدهم
الهتافات لكنه كاد أن يكسر شاشة التليفزيون أكثر من مرة فكلما يرى صورة مرسى يسارع
بقذفها بأى شئ جواره "شبشب، عصا، مفاتيح، موبايلات.. .." أما وعد أخت
أدهم التى لم تتعلم الكلام بعد لا تردد سوى مصر مصر وترفع يديها الصغيرتين وهى
تمسك علمها الصغير فى فرح وابتسامة بريئة شفافة وتتوجه دائما بوجهها نحوى كأنها
تقول لى "نريد أن نفرح ونظل نفرح دائما".. اللهم اجعل هذا البلد آمنا
فرحا بعزته وكرامته وحريته لأبنائه جميعا.
حتشبسوت التحرير
وسط دائرة الحرائر كما يقال عنها فى التحرير تستوقفك تلك
الجميلة التى ارتدت زى القوات الخاصة بالشرطة ووقفت تنظم حركة دخول السيدات إلى
المنطقة المخصصة لهم أمام المنصة، وكيف تقف على أهبة الاستعداد للتعامل بكل حزم مع
أى أحد يحاول كسر النظام، نظرت إليها وهى تدعونى لسرعة الدخول حتى لا أعطل الممر
للنساء القادمات من خلفى، فإذا بوجه حتشبسوت يطل أمامى كما رأيتها على جدران معبد
الدير البحرى فى الأقصر صحيح أنها ارتدت زى الرجال لتعطى لنفسها هيبة الفرعون لكن
ذلك لم يستطع أن يخفى فيها جمال المرأة المصرية التى تتوارثها أجيالا بعد أجيال..
وها هى حتشبسوت التحرير تدير دولة الميدان وتحرك اللجان الشعبية من الشباب الذين
اصطفوا متماسكى الأيدى لحماية دائرة النساء وتأمرهم حين يزداد العدد بتوسيع
الدائرة والرجوع للخلف وعلى الفور تأتى التلبية بتحرك عسكرى منتظم وعيونهم على
القائدة حتى تشير بالتوقف.
تمردوا تصحوا
حين دعت حركة تمرد للنزول يوم 30 يونيو وجهت الدعوة
للجمعية العمومية للشعب المصرى بأكملها والاحتشاد فى كل ميادين المحروسة بكل
المحافظات، ولم تنسى فى ذلك أهلنا من كبار السن الذين ربما لا يستطيعون المشى أو
لا يتحملون الزحام فطلب منهم أعضاء تمرد أن ينزلوا أمام بيوتهم بأعلام مصر، يعلنون
موقفهم أمام العالم، لكن أهلنا الأطهار كانوا سباقين فى الاحتشاد والالتحام
بالشباب وكأن الله زرع فيهم صحة وحيوية نبعت ولا شك من صدق مشاعرهم وقوة رفضهم ألا تضيع مصر فى يد جماعة خائبة
ورئيس فاشل وبحت أصواتهم من الهتاف فى كل مكان.. ولا أنسى وجه تلك السيدة التى
تتعدى السبعين بملامحها الريفية حين جلست على الرصيف بجوار عدد من النساء كبيرات
السن، وحين جاءت حفيدتها تطمئن عليها وتقول لها "عاملة ايه يا ستى" ردت
ببراءة طفولية "عايزة أعلق واحدة زى دى" مشيرة إلى الشارة الحمراء التى
علقتها على صدرى المكتوب عليها "ارحل" فعلى الفور خلعتها وعلقتها حول
رقبتها وكم كانت فرحتها رغم كلمات الرفض لقبولها لكنها فى ذات الوقت ظلت تتحسسها
وتنظر إليها كأنها تقول فى نفسها الآن أصبح لدى شارة كباقى الناس.
وجوه تملؤها
الابتسامة والأمل إنها ثورة شعب حقيقى تلاحمت أوصاله على كلمة واحدة وهدف واحد أن
يرحل الطامعون تبقى مصر لأهلها جميعا أهلها الذين وزعو من البلكونات والشبابيك
زجاجات المياه والعصائر وفتحت أبوابهم رحبة آمنة إذا سألهم أحد الدخول لقضاء حاجة
أو الراحة قليلا .. ومع الزحام الشديد اضطر بعض كبار السن للجلوس أمام البيوت خاصة
السيدات وأمسكوا بالأعلام وقد مررت على تجمعات كثيرة منهم يجلسون صامتون وكلما تمر
عليهم مسيرة أو تجمع يرفعون الأعلام مرددين "ارحل ارحل"..
كلام ستات
بعد عصر يوم الثلاثاء
فى مليونية الثانى من يوليو تجمعت بعض السيدات قبل أن يمتلئ الميدان وراحوا
يتحدثون عن بيان القوات المسلحة ومهلة الـ 48 ساعة قبل إعلانه خارطة المستقبل تحول
الحديث إلى كلام نسائى ساخر وعلت أصواتهم بالضحك فاقتربت منهموسمعت احداهن تقول
"والله لو مشى مرسى ندر عليا دستين شمع لأم هاشم والحسين" وتقول أخرى
"ده راجل كداب أمى راحت تجيب المعاش بتاعها 150 جنيه وهو قال المعاشات 400
جنيه لقت المبلغ بقى 175 جنيه بس يعنى زودهم 25 بس" فردت عليه احدى السيدات
بتهكم "ولا تزعلى نفسك بكرة اللى ما ناكله فى هناهم هناكله فى عزاهم" فانفجر الجميع بالضحك.. وهمت واحدة تحكى "أنها يوم الخميس
اللى فات اقتربت من زوجها واحتضنته وسألته انت راضى عنى يا حبيبى فرد طبعا يا عمرى، فرفعت يديها للسماء تدعو الله أن
يخلصنا من مرسى والاخوان وتسترسل قائلة انى اللى جوزها يبقى راضى عنها ربنا يستجيب
دعاها" حينها علقت احداهن بمكر انثوى "يغور مرسى والاخوان المهم الراجل
يبقى راضى يا ختى" فدخل الكل فى نوبة ضحك حتى دمعت عيونهم من كثرة التعليقات
المتلاحقة ورد كل منهم على الأخرى.
سيدات فى الجنة
لم يكمل الفريق عبدالفتاح
السيسى بيانه يوم الأربعاء الثالث من يوليو حتى انفجرت أمواج من البشر بالتهليل
والصراخ بعد تأكدهم من رحيل مرسى ونظامه، وافترشت الأرض بأعلام مصر التى انهالت
عليها جباه المصريين شكرا لله على فضله وكرمه وحفظ مصر آمنة مستقرة.
حينها تعالت الأصوات لدعوة
الجميع بقراءة الفاتحة على أرواح شهدائنا الأبرار، وإذا بالسيدة الفاضلة سامية
الشيخ والدة الشهيد محمد الجندى تتلبسنى هذه الأم الباسلة العظيمة التى تحملت ما
يفوق طاقة البشر مثلها ككل أمهات شهدائنا جميعا صبر الله قلوبهم، لكن السيدة سامية
وقفت بجسارة وثقة فى قلبها المفطور على وحيدها دخلت فى صراع مع نظام مرسى الفاشل
الفاشى حين ضنوا على ابنها بفضل الشهادة وراحو يكذبوا وقائع تعذيبه والتنكيل به من
اجل رفضه اعلان المعزول غير الدستورى.. فى هذه اللحظة تمنيت أن أطبع على جبينها
ويديها قبلة اعتذار عما عانته منذ فقد محمد ووقوفها فى الشوارع وعلى المنصات من
أجل قضيتها قضية مصر كلها.. فلتسامحينا يا سيدتى ولتسامحونا يا كل أمهاتنا الأطهار
الآن نعلن فرحنا لا لأننا نسينا أجمل ولاد
الحياة أولادكم وإخواننا بل لأننا ارتشقنا جرعة أمل أن حقهم حتما سيعود وأن ما
استشهدوا من أجله سيتحقق مهما تكبدنا وعانينا .. تحية إعزاز لأمهات أبناء الجنة
والفاتحة للأحياء عند ربهم فاللهم ارزقنا نعمة الشهادة بعد أن رزقتنا فضل الفرح لمصر
وأهلها وأدم علينا هذا الفرح يا أرحم الراحمين.
ومن اليوم سأظل أردد: "إن الثورة تولد من رحم
الأفراح".. أفراح القلوب التواقة للحرية.. أفراح العلامات الكبرى على طريق
الكرامة.. أفراح أصحاب التضحيات الذين وفوا وصدقوا.. أفراح العلم الواحد والنشيد
الواحد والشعب الواحد.
لنفرح ونفرح.. ونقبض على الفرح لا من أجل سلطة تزول ولكن
من أجل وطن لابد وأن يدوم ويستمر بالأمل والبناء والعمل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى مجلة رؤية - يوليو 2013